خواطر الأمس واليوم في ذكرى النكبة: د. حبيب حداد
التاريخ: 2005/05/17
الموضوع: المقالات
في الخامس عشر من أيار عام 1948، أعلنت الحركة الصهيونية رسمياً قيام دولتها إسرائيل على أرض فلسطين. لقد جاء الإعلان وتأسيس الكيان تكريساً للأمر
الواقع الذي فرضته موازين القوى القائمة آنذاك: أوضاع ومواقف وقدرات الأنظمة والجيوش العربية من جانب، وقوى الحركة الصهيونية وطبيعة الوضع الدولي بصورة عامة من جانب آخر.
كان ما حصل وما إنتهى إليه الأمر تحقيقاً لحلم الحركة الصهيونية العالمية، الحلم الذي راح يستمد المشروعية من العودة إلى الماضي البعيد، والغوص في أعماق التاريخ، وراح يبحث وينقب عن المرجعية في توليفة من الوقائع والأساطير الغابرة والتي تنأى في قدمها إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام. لكن الشيء الأهم الذي لم يتوقف على صحة المشروعية ولا على صدقية المرجعية تمثل في أن برنامج هذا المشروع الحلم قد سار في طريق التنفيذ العملي خطوة بعد خطوة منذ أن أقر بصورة رسمية في مؤتمر الحركة الصهيونية الأول في بازل عام 1897، علماً أن التمهيد والإعداد له كما أصبح معروفاً فيما بعد قد بدأ قبل ذلك التاريخ بوقت طويل، وربما منذ غزوة نابليون بونابرت إلى مصر والشرق العربي.
كانت الإستراتيجية ومن ثم خطة العمل غاية في الدقة والمثابرة والدهاء، وكانت في الوقت نفسه غاية في الوضوح والبساطة وحسن الإداء، وذلك من حيث تحديد الأهداف والمهمات وإختيار الوسائل والأساليب المناسبة والتي توزعت وتكاملت في ثلاثة مجالات: حيازة الأراضي بكل الطرق المتاحة، وتشجيع الهجرة والإستيطان، وضمان تعاطف وتأييد الرأي العام الدولي. وهكذا كان إذ لم يمض أكثر من نصف قرن منذ نادى تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية بضرورة قيام الدولة اليهودية في أرض الميعاد حتى كان ذلك المخطط أمراً واقعاً. ومما يجدر تذكره أن احصائيات تلك الفترة أي في بداية القرن العشرين كانت تشير إلى أن عدد السكان اليهود لم يكن يتجاوز نسبة 17% من مجموع السكان العام، وأن ما كان يملكونه لم يكن يتجاوز نسبة 8% من مساحة أرض فلسطين.
في كل عام وفي الخامس عشر من أيار تمر بنا ذكرى النكبة، وفي كل عام يستعيد الإنسان العربي أينما كان هذه الذكرى ويعيشها بمزيج من المعاني والمشاعر والدلالات الرمزية***. في كل عام يحاول كل منا وبوعي نقدي متجدد إستخلاص الدروس والعبر من هذا الحدث الجلل في تاريخ الأمة، وذلك من خلال إدراك الأسباب والمقدمات التي سبقت نكبة فلسطين وهيأت لها، والأحداث والتطورات التي اعقبتها والتي تحكمت بشكل أو بآخر في حصائل مسيرة الشعوب العربية وتطلعها نحو التحرر والتقدم والوحدة.
والسؤال الذي يواجه كل منا في مثل هذه الذكرى، وفي مناسبة غيرها من الأحداث التي تعتبر بمثابة النكاسات وهزائم في التاريخ القريب لهذه الأمة، مثل ذكرى إنفصال الوحدة بين مصر وسورية، إلى هزيمة حزيران، إلى حروب لبنان، إلى حرب الخليج الأولى والثانية... السؤال الذي يواجه كل منا وهو يعيش تعاقب مسلسل تلك الأحداث المفصلية: هل أصبح تعامل الإنسان العربي بل لنقل كل الشعوب العربية بمنظماتها وهيئاتها المدنية والسياسية مع ذكرى تلك الأحداث نوعاً من الطقوس العادية أو التقاليد الروتينيةالتي لا تتجاوز التذكير بها في وسائل الإعلام الرسمية أو في كتابة المقالات والتعليقات الصحفية التي تبرز أهميتها وخطورتها بإعتبارها كانت محطات نوعية فارقة في تاريخ هذه المنطقة من العالم؟... أم أن تعاقب ذكرى هذه الأحداث والمحن ومهما كانت صعوبة الواقع الذي تعيشه شعوبنا اليوم، واقع الإستبداد والتخلف والإحتلال لا بد أن يضع الجميع وبخاصة النخب المثقفة أمام مسؤولية اساسية تتمثل في وعي وإستيعاب العوامل والأسباب التي أدت إلى تلك الهزائم والتراجعات والوصول إلى ما نحن عليه اليوم من أجل تجاوز هذا الواقع وإستئناف مجتمعاتنا مسيرة التحرر والحداثة ومواكبة العصر.
لقد كان المفكر العربي الكبير الدكتور قسطنطين زريق من أوائل الذين استشرفوا وتحسسوا أبعاد المخطط الصهيوني ومراميه القريبة والبعيدة، ولعله أول من تلمس بعمق تحليل ونفاذ بصيرة في كتابه معنى النكبة، الأسباب التي أدت إلى نجاح هذا المخطط الذي لا يستهدف الشعب الفلسطيني لوحده بل الأمة كلها. وكان في مقدمة الذين رأوا أن تحرير فلسطين لا يمكن ان يتم إلا عبر تحرير وتحديث المجتمعات العربية، في دول المشرق العربي على الأقل، والأخذ بناصية التفكير العلمي والعقلاني في مختلف جوانب حياة المجتمع. ومع أني شخصياً لا أميل إلى توصيف المأساة الفلسطينية بمصطلح النكبة خشية أن تشي أو توحي هذه التسمية بأن ما حدث للشعب الفلسطيني من إغتصاب وطنه وتشريده في كل أصقاع المعمورة قد جاء بفعل عوامل خارجية قاهرة طبيعية أو بشرية. عوامل خارجية فحسب لا رادّ لها ولا تتعلق في جزئها الأساسي بالأوضاع التي كان وما يزال يعيشها العالم العربي. غير أن مصطلح النكبة قد أصبح منذ نهاية الأربعينات وحتى اليوم لصيقاً بالمأساة الفلسطينية، ومتداولاً لدى العامّـة والخاصّـة، فتجاوز بذلك مفهومه الدلالي اللفظي ليصبح تعبيراً حياً عن هول وبشاعة المعاناة الدائمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني والمأساة التي لم يتعرض لها شعب آخر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، والتي تظل جرحاً نازفاً في ضمير الإنسانية الساعية أبداً إلى إنتصار قيم ومباديء الحق والعدل والسلام.
قبل أيام مرت بنا ذكرى النكبة، وكما هي العادة فقد حفلت الصحافة ومختلف وسائل الإعلام بالمقالات والتعليقات التي تستعيد هذه الذكرى، وتؤكد على ضرورة إسترداد الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة كخطوة لا بد منها من أجل أن يسود الأمن والإستقرار والديموقراطية في هذه المنطقة من العالم. والواقع أن إستعادة وإحياء ذكرى نكبة فلسطين ولو على صعيد الوعي فحسب، هما أمر في غاية الأهمية وذلك لتحقيق هدفين رئيسيين: أولهما، تأمين الإستمرارية بالنسبة لهذه القضية كي تظل أجيال الحاضر والمستقبل على معرفة تامة بحقيقة ما حدث، فيزدادوا إيماناً بعدالة قضيتهم والتمسك بحقوقهم الوطنية إذ ما ضاع حق وراءه مطالب. وثانيهما، كي يعرف العالم مدى الظلم الذي لحق بالشعب الفلسطيني، الشعب الذي كان ضحية ما ارتكبه غيره. عندما قرر الآخرون إستهدافه وجعله موضوعاً لحل ما لاقاه يهود أوروبا من ظلم وإضطهاد تتحمل مسؤوليته الدول الأوروبية نفسها.
في ذكرى النكبة وإذ يستعيد المرء أحداث ووقائع التاريخ القريب على إمتداد نصف القرن الماضي وحتى الآن، وإذ يستعرض في الوقت نفسه حال المجتمعات العربية اليوم وضخامة التحديات، الإستحقاقات التي يواجهها، والعالم يضع اقدامه على عتبة القرن الواحد والعشرين، وإذ يحاول بوعي الحاضر والتحسس بمسؤوليات المستقبل، تقييم طبيعة السياسات والبرامج التي طرحت في سبيل إستعادة الحقوق الوطنية المغتصبة للشعب الفلسطيني. فإن هناك مجموعة من الخواطر التي ترد على البال والتي هي بلا شك انعكاس لحقائق الواقع الذي يصور المآل الذي انتهت إليه حتى الآن قضية فلسطين:
كان ينظر إلى القضية الفلسطينية إلى ما قبل عدة عقود على أنها القضية المركزية في كفاح حركة التحرر العربية. تلك كانت هي الحال على الأقل بالنسبة لدول المشرق العربي ومصر، وكان ينظر إلى الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع حضاري مفروض على الأمة وأنه بالتالي صراع وجود وليس نزاع حدود بين دول متجاورة إحتلت أجزاء من اراضيها. وعلى هذا الأساس ظلت الأنظمة العربية بلا إنقطاع تعلن أنها تضع قضية فلسطين في رأس أولوياتها وفي محور إهتماماتها، بل وبإسم تحرير فلسطين وإعادة الشعب الفلسطيني إلى دياره تعاقبت الإنقلابات العسكرية في العديد من الأقطار العربية، وجاءت أنظمة جديدة تدين التي سبقتها، وتحملها مسؤولية الفشل أو التخاذل أو التواطؤ في تحقيق هدف التحرير المقدس. الأمر نفسه وإن إختلفت المرامي والغايات، الأمر نفسه الذي كانت تدعيه الأنظمة والحكومات كان ينطبق على القوى والتيارات الوطنية والقومية على تباين اتجاهاتها وتياراتها الفكرية والسياسية.
خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، إنشغلت القوى الوطنية والتقدمية العربية بمهمة صياغة البرنامج الأصح والأجدى الذي يرسم الطريق نحو تحرير فلسطين، ووضعت نفسها في خضم جدل فكري وسياسي لا ينتهي حول ثنائية التحرير والوحدة أيهما ينبغي أن تكون له أولوية العمل والإنجاز، أي هل أن تحقيق الخطوات الوحدوية بين الأقطار العربية لذلك ينبغي أن يسبق بحيث تكون الوحدة قاعدة إنطلاق عملية التحرير، أم أن تحرير فلسطين ينبغي المباشرة فيها دون أي تأخير، إذ أن لقاء القوى الوطنية والتقدمية على أرض المعركة هو الذي يوفر الشروط اللازمة لتحقيق وحدتها سواء على الصعيد الشعبي أم على صعيد أنظمة الحكم. هكذا تركز واحتدم النقاش إذ في حمى اللإندفاع والحماس في تلك المرحلة، وحيث لم يكن من المسموح به آنذاك أن يعلو صوت فوق صوت المعركة تم تحويل الإهتمام المطلوب لتنمية المجتمعات العربية وتحديثها وإرساء الحياة الديموقراطية وإقامة دولة الحق والقانون في كل منهما.
بعد إخفاق المشروع النهضوي الذي نادت به القوى الوطنية والقومية والليبرالية واليسارية، وبعد أن فشلت الأنظمة العربية في تحقيق المهمات المطلوبة سواء على صعيد الحياة الديموقراطية والعدالة الإجتماعية، أم على صعيدالتحرير وصيانة الإستقلال الوطني، وبعد الحال التي وصل إليها الوضع العربي اليوم حال الإنهيار والعجز، تحولت القضية الفلسطينية من قضية مركزية مقدسة بالنسبة لكل الشعوب العربية، ومن قضية جامعة تحافظ على تماسك ومناعة النظام الإقليمي العربي، إلى مشكلة من مجموع مشاكل تعانيه الدول العربية وتتطلب الحل كيفما كان الأمر ولو على حساب التفريط بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. تحولت القضية الفلسطسنية إلى مشكلة بالنسبة للأنظمة العربية، وأصبحت في نظرها قضية قطرية تخص الشعب الفلسطسني وحده، ساعدها في هذا التنصل تركيز القيادة الفلسطينية المبالغ فيه على مبدأ القرار الوطني المستقل. واليوم فإن الأنظمة العربية بعد أن إستغلت القضية الفلسطينية كأداة تسلط وإضطهاد لشعوبها، فإنها وتحت شعار الواقعية تكرس تخليها عن إلتزاماتها تجاه الشعب الفلسطيني بدعوى أنها لا تريد أن تكون ملكية أكثر من أصحاب القضية أنفسهم. بل وإن الكثير من هذه الأنظمة وبعد أن تخلى عن أبسط إلتزاماته القومية تجاه هذه القضية إنتقل إلى ممارسة دور الوساطة أو المساومة أو السمسرة بين إسرائيل من جهة وبين الشعب الفلسطيني من جهة أخرى.
إن مسيرة القضية الفلسطينية منذ النكبة وحتى الآن تجسد وإلى حد كبير مسيرة الوضع العربي كله، إن إستعراض هذا الوضع على إمتداد نصف القرن الماضي إنما يبرز بصورة جلية الفشل في إنجاز أهداف التحرير الرئيسية للشعوب العربية وفي القلب منها قضية فلسطين. فمنذ عام 1948 وحتى وقت قريب ظلت معظم الأنظمة العربية ترفض قرارات منظمة الأمم المتحدة المتعلقة بوجود دولتين في فلسطين، ولكنها في سياساتها وممارستها لم تكن تقوم بالحد الأدنى من بناء مستلزمات الصمود والتحرير، أو تحقيق التوازن الإستراتيجي بينها وبين إسرائيل كما كانت تعلن ذلك على الدوام. بينما كانت إسرائيل في الوقت نفسه تتظاهر بقبول تلك القرارات لكنها على أرض الواقع تستمر في خلق وقائع جديدة بحيث يصبح تنفيذ تلك القرارات بعد فترة، ومن الناجية العملية أمراً غير ممكن التطبيق، ولعل آخر فصول هذا المسلسل موقفها من إتفاقات أوسلو وخارطة الطريق. ولكي لا نجانب الموضوعية علينا أن نقر ونعترف بأن النتائج التي وصلنا إليها اليوم لا تتحملها لوحدها الأنظمة والحكومات، عداك عن العوامل الخارجية، بل هي أيضاً مسؤولية القوى والحركات السياسية والإصلاحية ومختلف هيئات المجتمع المدني الأخرى. الحصائل التي قاد إليها كفاح الشعوب العربية منذ الإستقلال الوطني وحتى اليوم إنما تجسد في جانب رئيسي منها ومن وجهة نظري مسيرة العقل العربي، وعلى وجه التحديد مسيرة الفكر السياسي العربي، الذي وجه عمل تلك القوى والحركات السياسية على إختلاف مرجعياتها العقائدية. عندما إنتقل العرب من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، من إحراز الإستقلال الوطني إلى بناء دول حديثة تكرس قيم الحرية والديموقراطية وحقوق المواطنة المتساوية، فشلوا في تحقيق ذلك إذ أن جميع مجتمعاتهم تقريباً ما تزال تعيش حياة الإستعباد والقهر والتخلف والتاريخ لن يعذرهم أو يشفع لهم، لمجرد أنهم إزاء الكثير من القضايا التي تهم حاضرهم ومستقبلهم هم اصحاب الحق. لكن الحق ما يزال حتى الآن ومع الأسف للقوة، إذ ليس يكفي أن نكون أصحاب حق، بل الأهم من ذلك أن نكون جديرين بهذا الحق. والقوة في عالمنا اليوم بالنسبة لأية دولة من الدول لم تعد تتوقف على القوة العسكرية وإنما هي تقاس قبل أي شيء آخر بمدى التطور العلمي والتكنولوجي والسياسي والإقتصادي والثقافي.
خلاصة القول إن ما يمكن إستخلاصه ونحن نعيش عاماً آخر ينقضي من عمر النكبة ومأساة الشعب الفلسطيني ما تزال متواصلة، إن قضية فلسطين شأنها شأن القضايا المركزية الأخرى في مشروع النهضة العربية مثل قضايا الديموقراطية والتنمية والحداثة والتكامل والوحدة، تحتاج إلى إعادة تأسيس في الفكر السياسي العربي ، وفي الوعي الشعبي بصورة عامة، على إعتبار أنها قضية تحرر وطني بالنسبة للشعب الفلسطيني، وأنها في الوقت نفسه قضية مركزية في مسار كفاح الشعوب العربية من أجل تحررها الوطني الديموقراطي والإجتماعي وتطلعها نحو تحقيق هدفها المصيري في التضامن والتكامل والوحدة.
إن أستمرار معاناة الشعب الفلسطيني في الوقت الذي ترمز في جانب منها إلى صلابة وحيوية هذا الشعب وتضحياته غير المحدودة وتصميمه على إسترداد حقوقه، فإنها وفي الوقت نفسه ستظل شاهداً على عجز وعطالة الوضع العربي وشاهداً على إنحياز الأمم المتحدة وعجزها عن تطبيق قراراتها في تمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق أهدافه في الحرية وتقرير المصير وبناء دولته الديموقراطية المستقلة.